حكم نشر الشائعات والأخبار
الكاذبة دون تثبت
الحمد لله يقول الحق وهو يهدي السبيل والصلاة والسلام على نبينا الجليل وعلى آله وصحبه وسلم ثم إما بعد ...،
فإن
من أعظم الجرائم التي حذر منها كل من القرآن والسنة ترويج الشائعات ،
والتي من شئنها هدم الدول فضلا عن البيوت وما تحمله في طياتها من قتل معنوي
وإرهاب للناس.
قال
الحق تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا
عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) (6) الحجرات
و في قراءة أخرى ( فتثبتوا ).
فهنا
نداء من الله لأهل التكليف من المؤمنين بالتبيُن و التثبت عند تلقي
الأخبار و حتى عند نشرها، فلا يحل للمسلم أن ينشر خبرا دون أن يكون متأكدا
من صحته ، بل نقول : ليس كل ما يعرف يقال ، بل من الحكمة أن نتعلم (متى
نتكلم ومتى نسكت).
فإن مما علمنا أشياخنا بارك الله في أعمارهم ورحم من مات منهم – أن نكتم بعض العلم عن بعض الناس حتى لا يكون لهم فتنة .
قال
عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم ((كفى بالمرء كذِباً أن يُحدِّثَ بكل
ما سمع))(1) .قال ابن حبان عند ذكر الخبر السابق : "في هذا الخبر الزجر
للمرء أن يحدث بكل ما سمع حتى يعلم على اليقين صحته ثم يحدث به دون ما لا
يصح" (2)
قلت (أبو أنس) : ذلك بأنه قد ينقل كذبا ويشيع فتنة بقصد أو بغير قصد.
بل إنه من أعظم الفساد كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى
وفي
الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نعى عن
قيل وقال ) أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر
ولا تبيّن0
إخوتي في الله
كم
اكتوى المسلمون بنار الشائعات ولنتأمل حادثة الإفك، وهي إشاعة اشاعها
الفاجر عبد الله بن أبي بن سلول وتداولها المنافقون وتأثر بها بعض المسلمين
والمسلمات بغير تفكير ووعي و لقد ظل المسلمون شهراً كاملاً تعطصرهم فتنة
عاصفة، ويكفينا أن الله سبحانه كَذّبَهَا في قرآن يتلى إلى يوم القيامة،
وصدق الله سبحانه إذ يقول: {لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَّكُمْ} فكانت درسا تربويا عظيما لكل من ينقل الأخبار بغير تثبت.
نعم ... الشائعات كانت السبب الرئيس في هزيمة المسلمين في غزوة أحد عندما أشاع المشركون مقتل النبي – صلى الله عليه وسلم – .
الشائعات كانت السبب الرئيس في مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عندما أشاع ابن سبأ اليهودي أن عثمان يحرف القرآن .
والشائعات دائما كانت ولا تزال مصدرا لكل وقيعة وفتنة.
ونلخص لكم بعض ما نقله أهل العلم في طرق وخطوات التثبت
أ - النقطة الأولى: التثبت:
و من طرق التثبت:
1- إرجاع الأمر لأهل الاختصاص:
يقول الله تعالى: ( و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه
إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ).
قال الشيخ السعدي: ( هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم غير اللائق ، و أنه
ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة و المصالح العامة ؛ ما يتعلق
بسرور المؤمنين أو الخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا و لا يستعجلوا
بإشاعة ذلك الخبر ، بل يردونه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم ؛ أهل
الرأي و العلم و العقل الذين يعرفون المصالح و ضدها.
فإن رأوا في إذاعته مصلحة و نشاطا للمؤمنين و سرورا لهم و تحرزا من أعدائهم : فعلوا ذلك.
فان رأوا ليس من المصلحة أو فيه مصلحة و لكن مضرته تزيد على مصلحته لم
يذيعوه ) ا. هـ فكم من إشاعة كان بالمكان تلافي شرها بسؤال أهل الاختصاص.
2- التفكر في محتوى الإشاعة:
و لو أعطينا أنفسنا و لو للحظات في التفكر في تلك الإشاعات لما انتشرت إشاعة أبدا.
ب- النقطة الثانية: الناقل للإشاعة من الفاسقين.
في الآية السابقة يقول الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق
بنبأ فتبينوا ...) فجعل الله من نقل الخبر دون تثبت من الفاسقين.
و ذلك لان هذه الأخبار ليس كلها صحيح، بل فيها الصحيح و الكاذب، فكان من
نقل كل خبر و أشاعه؛ داخل في نقل الكذب، لذا جعله الله من الفاسقين.
فالعاقل يعلم أنه ليس كل ما يسمع يقال.
و لا كل ما يعلم يصلح للإشاعة و النشر.
بل قد يكون الخبر صحيحا و لكن لا مصلحة في نشره أبدا، كما مر معنا في كلام الشيخ السعدي.
ت- النقطة الثالثة: التفكر في عواقب الإشاعة.
هلا تفكرت في نتائج الإشاعة.
هلا تدبرت في عواقبها.
يقول بعض أهل العلم وهو مستنبط من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية:
والذي ينبغي على المسلم عند سماعه مثل هذه الإشاعات والأخبار:
1.
أن يقدم حسن الظن بأخيه المسلم، وهو طلب الدليل الباطني الوجداني، وأن
ينزل أخاه المسلم بمنزلته، وهذه هي وحدة الصف الداخلي: {لَوْلا إذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ
خَيْراً}.
2. أن يطلب الدليل الخارجي البرهاني: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}.
3.
أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره؛ فإن المسلمين لو لم يتكلموا بمثل هذه
الشائعات لماتت في مهدها، ولم تجد من يحييها إلا من المنافقين: {ولَوْلا
إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ
بِهَذَا..}.
4.
أن يرد الأمر إلى أولي الأمر، ولا يشيعه بين الناس أبداً، وهذه قاعدة عامة
في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي، كما قال تعالى: {وإذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ
رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً}[ النساء: 83].
5.
عدم سماع ما يقوله الكذابون، والمنافقون، والمغتابون، وأصحاب القلوب
المريضة، وعدم الرضى بذلك، كما هو منهج السلف -رضوان الله عليهم-.
أحبتي في الله:
اعلموا : أن الفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار
الأكابر عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها، وهذا شأن الفتن، كما قال تعالى:
{واتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً}
ولعلكم رأيتم أو سمعتم الاعتداءات على الشيخ محمد حسان في ميدان التحرير.
أحبتي في الله
إذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله تعالى.
وما نراه الآن من فتنة إنما هو من قلة علمنا بالله وسننه الكونية
أخيرا أقول لإخواني وأخواتي اتقوا فيما تنقلون من أخبار فإن الله سائلكم يوم القيامة فأعدوا للسؤال جوابا.
وفقكم الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم في المقدمة (1/10/5)، أبو داود (5/265-266/4992)، ابن حبان (1/213-214/30) والحاكم (1/112) من حديث أبي هريرة.
(2) المجروحين ، [ج1 ، ص6].