حتمية يوم القيامة
تخويف الله الكفار من بطشه وانتقامه
أحوال الأشقياء المجرمين
أحوال السعداء المتقين وبعض أحوال المجرمين
بَين يَدَيْ السُّورَة
*
سورة المرسلات مكية، وهي كسائر السور المكية تعالج أمور العقيدة، وتبحث عن
شؤون الآخرة، ودلائل القدرة والوحدانية، وسائر الأمور الغيبية.
*
ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بأنواع الملائكة، المكلفين بتدبير شؤون
الكون، على أن القيامة حقُّ، وأن العذاب والهلاك واقع على الكافرين
{والمرسلات عرفاً * فالعاصفات عصفاً * والناشرات نشراً * فالفارقات فرقاً *
فالملقيات ذكراً * عذراً أو نذراً * إِنما توعدون لواقع}.
*
ثم تحدثت عن وقت ذلك العذاب الذي وُعد به المجرمون {فإِذا النجوم طمست *
وإِذا السماء فرجت * وإِذا الجبال نسفت * وإِذا الرسل أقتت * لأي يومٍ
أُجلت * ليوم الفصل * وما أدراك ما يوم الفصل}.
* وتناولت
السورة بعد ذلك دلائل قدرة الله الباهرة على إِعادة الإِنسان بعد الموت،
وإِحيائه بعد الفناء {ويلٌ يومئذٍ للمكذبين * ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم
الآخرين * كذلك نفعل بالمجرمين* ويلٌ يومئذٍ للمكذبين * ألم نخلقكم من
ماءٍ مهين} الآيات.
* ثم تحدثت عن مآل المجرمين في الآخرة
وما يلقون فيه من نكال وعقاب {ويلٌ يومئذٍ للمكذبين * انطلقوا إِلى ما كنتم
به تكذبون * انطلقوا إِلى ظلٍ ذي ثلاث شعب * لا ظليلٍ ولا يغني من اللهب *
إِنها ترمي بشرر كالقصر * كأنه جمالت صفر ..} الآيات.
*
وبعد الحديث عن المجرمين، تحدثت السورة عن المؤمنين المتقين، وذكرت ما أعده
الله تعالى لهم من أنواع الإِفضال والإِكرام {إِن المتقين في ظلال وعيون *
وفواكه مما يشتهون * كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون * إن كذلك نجزي
المحسنين}.
* وختمت السورة الكريمة ببيان سبب امتناع
الكفار، عن عبادة الله الواحد القهار، وهو الطغيان والإِجرام {ويلٌ يومئذ
للمكذبين * كلوا وتمتعوا قليلاً إِنكم مجرمون * ويلٌ يومئذٍ للمكذبين*
وإِذا قيل لهم اركعوا لا يركعون * ويلٌ يومئذٍ للمكذبين * فبأي حديث بعده
يؤمنون}.
حتمية يوم القيامة
{وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفًا(1)فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا(2)وَالنَّاشِرَاتِ
نَشْرًا(3)فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا(4)فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا(5)عُذْرًا
أَوْ نُذْرًا(6)إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ-7-فَإِذَا النُّجُومُ
طُمِسَتْ 8 وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ(9)وَإِذَا الْجِبَالُ
نُسِفَتْ(10)وَإِذَا الرُّسُلُ أقِّتَتْ(11)لأَيِّ يَوْمٍ
أُجِّلَتْ(12)لِيَوْمِ الْفَصْلِ(13)وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ
الْفَصْلِ(14)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(15)}
{وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفًا} أي أُقسم بالرياح حين تهبُّ متتابعة، يقفو بعضها إِثر بعض، قال
المفسرون: هي رياح العذاب التي يهلك الله بها الظالمين {فَالْعَاصِفَاتِ
عَصْفًا} أي وأُقسم بالرياح الشديدة الهبوب، إِذا أُرسلت عاصفة شديدة، قلعت
الأشجار، وخربت الديار، وغيَّرت الآثار {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} أي
وأُقسم بالملائكة الموكلين بالسحب يسوقونها حيث شاء الله، لتنشر رحمة الله -
المطر - فتحيي به البلاد والعباد {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} أي وأقسم
بالملائكة التي تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام {فَالْمُلْقِيَاتِ
ذِكْرًا} أي وأقسم بالملائكة تنزل بالوحي، وتلقي كتب الله تبارك وتعالى
إِلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} أي تلقي الوحي
إِعذاراً من الله للعباد لئلا يبقى لهم حجة عند الله، أو إِنذاراً من الله
للخلق بالنقمة والعذاب {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} هذا هو جواب القسم
أي إِنَّ ما توعدون به من أمر القيامة، وأمر الحساب والجزاء، كائن لا
محالة، قال المفسرون: أقسم تعالى بخمسة أشياء، تنبيهاً على جلالة قدر
المقسم به، وتعظيماً لشأن المقسم عليه، فأقسم بالرياح التي تحمل الرحمة
والعذاب، وتسوق للعباد الخير أو الشر، وبالملائكة الأبرار، الذين يتنزلون
بالوحي للإِعذار والإِنذار، أقسم على أن أمر القيامة حق لا شك فيه، وأن ما
أوعد الله تعالى به المكذبين، من مجيء الساعة والثواب والعقاب، كائن لا
محالة، فلا ينبغي الشك والامتراء .. ثم بيَّن تعالى وفصَّل وقت وقوع ذلك
فقال {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} أ ي محيت النجوم وذهب نورها وضياؤها
{وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} أي شقت السماء وتصدَّعت {وَإِذَا الْجِبَالُ
نُسِفَتْ} أي تطايرت الجبال وتناثرت حتى أصبحت هباءً تذروه الرياح كقوله
تعالى {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً} {وَإِذَا الرُّسُلُ
أقِّتَتْ} أي جعل للرسل وقتٌ وأجل، للفصل بينهم وبين الأمم، وهو يوم
القيامة كقوله تعالى {يوم يجمع اللهُ الرسل فيقول ماذا أُجبتم}؟ وأصل
{أُقتت} وُقِّتت من الوقت أي جعل لها وقت محدد، قال الطبري: أي أُجّلت
للاجتماع لوقتها يوم القيامة، وقال مجاهد: هو الوقت الذي يحضرون فيه
للشهادة على أممهم {لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ}؟ استفهامٌ لتعظيم ذلك اليوم،
والتعجيب لما يقع فيه من الهول والشدة أي لأي يومٍ عظيم أُخرت الرسل؟ ثم
قال {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} أي ليوم القضاء والفصل بين الخلائق، يوم يفصل
الله بين الأنبياء وأممهم المكذبين بحكمه العادل {وَمَا أَدْرَاكَ مَا
يَوْمُ الْفَصْلِ}؟ استفهام للتعظيم والتهويل أي وما أعلمك أيها الإِنسان
بيوم الفصل وهوله؟ فإِن ذلك اليوم أعظم من أن يعرف أمره إِنسان، أو يحيط به
عقل أو وجدان، ووضع الظاهر {مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} مكان الضمير "ما هو"
لزيادة تفظيع وتهويل أمره، قال الإِمام الفخر الرازي: عجَّب العباد من
تعظيم ذلك اليوم فقال: لأي يومٍ أُجّلت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل، وهي
تعذيب من كذَّبهم، وتعظيم من ءامن بهم، وظهور ما كانوا يدعون الخلق إِلى
الإِيمان به، من الأهوال والعرض والحساب، ثم إِنه تعالى بين ذلك فقال
{لِيَوْمِ الْفَصْلِ} وهو يومٌ يفصل الرحمن بين الخلائق، ثم أتبع ذلك
تعظيماً ثانياً فقال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي وما أعلمك
ما هو يوم الفصل وشدته ومهابته؟ وجواب الشرط {فإِذا النجوم} الخ محذوف
لدلالة الكلام عليه تقديره: وقع ما توعدون به، وجرى ما أخبركم به الرسل من
مجيء القيامة، والحذف على هذه الصورة من أساليب الإِيجاز البياني الذي
امتاز به القرآن {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك عظيم وخسار
كبير في ذلك اليوم لأولئك المكذبين بهذا اليوم الموعود، قال المفسرون:
كرَّر هذه الجملة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في هذه السورة عشر
مرات لمزيد الترغيب والترهيب، وفي كل جملة وردت أخبارٌ عن أشياء من أحوال
الآخرة، وتذكير بأحوال الدنيا، فناسب أن يذكر الوعيد عقيب كل جملة منها
بالويل والدمار للكفرة الفجار، ولما كان - في سورة الإِنسان السابقة - ذكر
بعضاً من أحوال الكفار في الآخرة، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين هناك، جاء
في هذه السورة بالإِطناب في وصف الكفار، والإِيجاز في وصف المؤمنين.
تخويف الله الكفار من بطشه وانتقامه
{أَلَمْ
نُهْلِكِ لأَوَّلِينَ(16)ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ(17)كَذَلِكَ
نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ(18)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ(19)أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ
مَهِينٍ(20)فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(21) إِلَى قَدَرٍ
مَعْلُومٍ(22)فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ(23)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ(24)أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا(25)أَحْيَاءً
وَأَمْوَاتًا(26)وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ
وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا(27)وَيْلٌ يوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ(28)انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(29)}
ثم
بعد أن أكد الخبر بيوم القيامة، وأنه حق كائن لا محالة، وبعد أن خوَّف
المكذبين من شدة هول ذلك اليوم، وفظاعة ما يقع فيه، عاد فخوَّفهم من بطش
الله وانتقامه بأسلوب آخر فقال {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ}؟ أي ألم
نهلك السابقين بتكذيبهم للرسل، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود؟ {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ
الآخِرِينَ}؟ أي ثم ألحقنا بهم المتأخرين ممن كانوا مثلهم في التكذيب
والعصيان، كقوم لوط وشعيب وقوم موسى "فرعون وأتباعه" ومن على شاكلتهم
{كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي مثل ذلك الإِهلاك الفظيع نفعل
بهؤلاء المجرمين "كفار مكة" لتكذيبهم لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار لكل مكذب بالتوحيد
والنبوة، والبعث والحساب {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} تذكير
للمكذبين وتعجيب من غفلتهم وذهولهم عن أبسط الأمور المشاهدة، وهي أن من
خلقهم من النطفة الحقيرة الضعيفة كان قادراً على إِعادة خلقهم للعبث
والحساب والمعنى: ألم نخلقكم يا معشر الكفار من ماءٍ ضعيف حقير هو منيُّ
الرجل؟ وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل (ابن آدم أنَّى تعجزني وقد
خلقتك من مثل هذه) الحديث {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} أي فجعلنا
هذا الماء المهين في مكان حريز وهو رحم المرأة {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} أي
إِلى مقدار من الزمن محدَّد معيَّن، معلوم عند الله تعالى وهو وقت
الولادة، {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} أي فقدرنا على خلقه من
النطفة، فنعم القادرون نحن حيث خلقناه في أحسن الصور، وأجمل الأشكال
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار للمكذبين بقدرتنا، قال
الصاوي: هذه الآية تذكير من الله تعالى للكفار بعظيم إِنعامه عليهم،
وبقدرته على ابتداء خلقهم، والقادرُ على الابتداء قادر على الإِعادة، ففيها
ردٌّ على المنكرين للبعث .. ثم ذكَّرهم بنعمة إِيجادهم على الأرض حال
الحياة، ومواراتهم في باطنها بعد الموت فقال {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ
كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}؟ أي ألم نجعل هذه الأرض التي تعيشون
عليها كالأم لكم، تجمع الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها؟ قال
المفسرون: الكفت: الجمع والضم، فالأرض تجمع وتضم إِليها جميع البشر، فهي
كالأم لهم، الأحياء يسكنون فوق ظهرها في المنازل والدور، والأموات يسكنون
في بطنها في القبور {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}
قال الشعبي: بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ
شَامِخَاتٍ} أي وجعلنا في الأرض جبالاً راسخات عاليات مرتفعات لئلا تضطرب
بكم {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} أي وأسقيناكم ماءً عذباً حلواً
بالغ العذوبة، أنزلناه لكم من السحاب، وأخرجناه لكم من العيون والأنهار،
لتشربوا منه أنتم ودوابكم، وتسقوا منه زرعكم وأشجاركم {وَيْلٌ يوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ * انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي
انطلقوا إِلى عذاب جهنم الذي كنتم تكذبون به في دار الدنيا، وهذا الكلام
تقوله لهم خزنة النار تقريعاً وتوبيخاً.